تقف وراء كل التحركات السياسية والدبلوماسية مصالح، إما إقتصادية أو سياسية أو إستراتيجية أو جتماعية أو حتى مصالح علاقات عامة. ولهذا السبب أثار الاعتذار المفاجئ الذي تقدم به يوم الجمعة (23/3/2013) رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، إلى رئيس وزراء تركيا رجب طيب اردوغان تساؤلات عما يقف وراء هذه الأكمة.
ثلاث سنوات ونتنياهو يرفض الإعتذار لتركيا عن الجريمة التي ارتكبتها البحرية الإسرائيلية ضدّ سفينة مرمرة التركية التي كانت جزءا من أسطول الحرية الذي أراد كسر الحصار عن غزة. ولهذا لا يمكن القول أن هذا الإعتذار جاء بسبب ضغط امريكي. وإذا كان حقيقة بسبب ضغط كهذا فلماذا لم تخضع إسرائيل له منذ المحاولة الأمريكية الأولى لتصفية الخلافات بين الدولتين؟.
وتبين أن الإعتذار، كما ورد في عديد من وسائل الإعلام، لم يتضمن كل الطلبات التي تقدمت بها تركيا لإنهاء الأزمة. وقرأنا عن لسان مسؤولين إسرائيليين قولهم، أن بقية الطلبات التركية ستنفذ في المستقبل.
فأول ما يلفت النظر في هذا التحرك هو، انه لم يطلب من أية دولة عربية ان تكون شريكة في مسيرة تصفية الخلافات، طالما أن القضية الفلسطينية كانت صلب الموضوع، إذ أن الخلاف بين تركيا وإسرائيل وصل إلى أشده أثناء منتدى دافوس الدولي (5/1/2009). فقد عقد هذا المنتدى في اعقاب حرب غزة (2009)، وقد حضرته جامعة الدول العربية ممثلة بعمرو موسى، وإسرائيل ممثلة بشمعون بيرس، وتركيا ممثلة برئيس وزرائها رجب الطيب أردوغان. وجرت بعض الاستفزازات بين بيرس واردوغان، مما حدى بالأخير من أن يقف غاضبا موجها كلامه لشمعون بيرس وهو منسحب من الجلسة: 'إنكم (أي الإسرائيليين) تعرفون كيف تقتلون الأطفال'. وانسحب أردوغان من المنتدى في حين بقي عمرو موسى جالسا. وعندما عاد أردوغان إلى تركيا أستقبل إستقبال الأبطال. (جورج حداد الحوار المتمدن عدد 2553 ــ 10/2/2009).
ثم جاء مقتل المدنيين الأتراك الذين كانوا على متن السفينة مرمرة، والإهانة التي وجهها نائب وزير الخارجية الإسرائيلية للسفيرالتركي لدى تل أبيب، حيث أجلسه على كرسي منخفض، وجلس هو على كرس مرتفع أجبر السفير النظر إلى فوق كلما أراد التحدث مع نائب الوزير. وفجأة إنتهت كل هذه الإهانات بمكالمة هاتفية. ويبدو أن نتنياهو قرر تقديم الإعتذار دون العودة إلى حلفائه في الحكومة، مما حدى بوزير الخارجية السابق ورئيس حزب 'إسرائيل بيتنا' أفيغدور ليبرمان، بنشر مقال ينتقد فيه نتنياهو، الإعتذار الإسرائيلي (يديعوت أحرونوت 25/3/2013).
قال ليبرمان، أنه يعتقد أن قيام إسرائيل بتقديم إعتذار رسمي لتركيا هو موقف خاطيء: 'ولو كان من شأنه أن يعود بفوائد سياسية آنية على إسرائيل ذلك بأنه يمس شعور جماهير الشعب في إسرائيل.... وعندما أقول هذا الكلام، فإن أول ما يتبادر إلى ذهني ما سيشعر فيه جنود الكوماندوس البحرية الذين هاجموا سفينة مرمرة التركية'.
وعندما تدهورت العلاقات بين الدولتين، رفعت معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية أن الخلاف ناجم بسبب العقائد الأيديولوجية التي تسيطر على الزعامة التركية الحالية بقيادة رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته أحمد داوود أغلو. وممثل هذا الخلاف لا ينتهي بمصالحة هاتفية.
لهذا السبب شكك الكثيرون من أن هذه المصالحة جاءت بسبب ضغط أمريكي. ورجحوا أن هناك عوامل أخرى فرضت نفسها. من بينها الموقف التركي من الصراع الدائر في سورية والمبني على أساس طائفي، أكثر منه على أساس أيديولوجي، حيث لعبت، ولا زالت، دورا نشيطا على مستويات مختلفة في هذه الحرب.
ولكن تبين أيضا أن عوامل إقتصادية هامة بدأت تغزو المنطقة، والتي تحتاج إلى أكثر من وقفة لتفسيرها. ففي عام 2009 أعلن عن إكتشاف احتياطي كبير من الغاز الطبيعي قبالة سواحل لبنان الجنوبية. هذا الاكتشاف وضع جميع دول حوض البحر الأبيض المتوسط في حالة ترقب وتوتر، فهذه الاكتشافات للغاز الطبيعي لها أهمية قصوى من الناحية الإقتصادية ولا سيما حقلي 'تمار' و'ليفيتان' اللذين سارعت إسرائيل في منحهما أسماء عبرية، حيث تقدر قيمة الاحتياطي الإجمالي فيها من الغاز الطبيعي بنحو 200 مليار دولار وربما أكثر من ذلك.
وتقدر كمية الغاز الموجودة في الحقلين بـ1480 مليار متر مكعب، ولكن المشكلة التي ستواجه هذه الدول هي تكاليف تطوير هذه الحقول، إذ يبلغ قيمة تكاليف حفر البئر الواحدة من قاع البحر نحو 100 مليون دولار.
هذا الإكتشاف رفع وتيرة الصراع العسكري في المنطقة، خصوصا بين إسرائيل والمقاومة اللبنانية، والتي أرسلت قبل عدة أشهر طائرة تجسس اخترقت الحدود الجنوبية لإسرائيل وقامت بتصوير كل المنشآت الغازية في البحر وعلى اليابسة قبل أن تسقطها الطائرات الإسرائيلية.
وقد يكون العامل الأمني هو أحد الدوافع الأساسية لهذه المصالحة المفاجئة، وبسببه حيدت الدول العربية من المشاركة في تقرير مصير هذه الأمور، حتى الدول الحليفة للولايات المتحدة والصديقة لتركيا والتي لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. والعامل الاقتصادي يحتاج إلى مساندة أمريكية. فتسويق هذا الغاز في الأسواق العالمية يحتاج إلى أنبوب بعيد عن الأراضي العربية، أي بحاجة إلى أراض تسيطر تركيا عليها وتقوم أمريكا بحراستها. وبهذا يصبح إكتشاف الغاز الطبيعي في تلك المنطقة، عاملا إضافيا للتوتر بسبب انخفاض نسبة المياه، وبسبب الأوضاع السياسية.
دكتور فوزي الأسمر ( كاتب من فلسطين )